فصل: الاستغاثة عند الإشراف على الهلاك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء الرابع

استعاذةٌ

التعريف

1 - الاستعاذة لغةً‏:‏ الالتجاء، وقد عاذ به يعوذ‏:‏ لاذ به، ولجأ إليه، واعتصم به، وعذت بفلانٍ واستعذت به‏:‏ أي لجأت إليه‏.‏ ولا يختلف معناها اصطلاحاً عن المعنى اللّغويّ، فقد عرّفها البيجوريّ من الشّافعيّة بأنّها‏:‏ الاستجارة إلى ذي منعةٍ على جهة الاعتصام به من المكروه‏.‏ وقول القائل‏:‏ أعوذ باللّه‏.‏‏.‏ خبرٌ لفظاً دعاءٌ معنًى‏.‏

ولكن عند الإطلاق، ولا سيّما عند تلاوة القرآن أو الصّلاة تنصرف إلى قول‏:‏ ‏(‏أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم‏)‏ وما بمنزلتها كما سيأتي‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الدّعاء‏:‏

2 - الدّعاء أعمّ من الاستعاذة، فهو لجلب الخير أو دفع الشّرّ والاستعاذة دعاءٌ لدفع الشّرّ‏.‏

صفتها‏:‏ حكمها التّكليفي

3 - الاستعاذة سنّةٌ عند أغلب الفقهاء، وقال البعض بوجوبها عند قراءة القرآن، وعند الخوف‏.‏ وسيأتي تفصيل الحكم في كلّ موطنٍ على حدةٍ‏.‏

حكمة تشريعها

4 - طلب اللّه سبحانه من عباده أن يستعيذوا به من كلّ ما فيه شرٌّ، وشرعها سبحانه عند القيام ببعض الأعمال، كقراءة القرآن في الصّلاة وخارجها، وغير ذلك‏.‏«واستعاذ الرّسول صلى الله عليه وسلم من الشّرّ كلّه، بل إنّه استعاذ ممّا عوفي منه وعصم»، إظهاراً للعبوديّة، وتعليماً لأمّته‏.‏

مواطن الاستعاذة

أوّلاً‏:‏ الاستعاذة لقراءة القرآن

5 - أجمع العلماء على أنّ الاستعاذة ليست من القرآن الكريم، ولكنّها تطلب لقراءته، لأنّ قراءته من أعظم الطّاعات، وسعي الشّيطان للصّدّ عنها أبلغ‏.‏ وأيضاً‏:‏ القارئ يناجي ربّه بكلامه، واللّه سبحانه يحبّ القارئ الحسن التّلاوة ويستمع إليه، فأمر القارئ بالاستعاذة لطرد الشّيطان عند استماع اللّه سبحانه وتعالى له‏.‏

حكمها‏:‏

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها سنّةٌ، وعن عطاءٍ والثّوريّ‏:‏ أنّها واجبةٌ أخذاً بظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه‏}‏ «ولمواظبته عليه الصلاة والسلام»، ولأنّها تدرأ شرّ الشّيطان، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجبٌ‏.‏ واحتجّ الجمهور بأنّ الأمر للنّدب، وصرفه عن الوجوب إجماع السّلف على سنّيّته،«ولما روي من ترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم لها»، وإذا ثبت هذا كفى صارفاً‏.‏

محلّها‏:‏

7 - للقرّاء والفقهاء في محلّ الاستعاذة من القراءة ثلاثة آراءٍ‏:‏

أحدها‏:‏ أنّها قبل القراءة، وهو قول الجمهور، وذكر ابن الجزريّ الإجماع على ذلك، ونفى صحّة القول بخلافه‏.‏ واستدلّوا على ذلك بما رواه أئمّة القرّاء مسنداً عن نافعٍ عن جبير بن مطعمٍ«أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل القراءة‏:‏ أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم»‏.‏ دلّ الحديث على أنّ التّقديم هو السّنّة، فبقي سببيّة القراءة لها،

والفاء في ‏(‏فاستعذ‏)‏ دلّت على السّببيّة، فلتقدّر ‏(‏الإرادة‏)‏ ليصحّ‏.‏

وأيضاً الفراغ من العمل لا يناسب الاستعاذة‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّها بعد القراءة، وهو منسوبٌ إلى حمزة، وأبي حاتمٍ، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن سيرين، وإبراهيم النّخعيّ، وحكي عن مالكٍ، عملاً بظاهر الآية ‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه‏}‏‏.‏ فدلّ على أنّ الاستعاذة بعد القراءة، والفاء هنا للتّعقيب‏.‏ وردّ صاحب كتاب النّشر صحّة هذا النّقل عمّن روي عنهم‏.‏

الثّالث‏:‏ الاستعاذة قبل القراءة وبعدها، ذكره الإمام الرّازيّ، ونفى ابن الجزريّ الصّحّة عمّن نقل عنه أيضاً‏.‏

الجهر والإسرار بها‏:‏

8 - للفقهاء والقرّاء في الجهر بالاستعاذة، أو الإسرار بها آراءٌ‏:‏

أوّلها‏:‏ استحباب الجهر بها، وهو قول الشّافعيّة، وهو روايةٌ عن أحمد، وهو المختار عند أئمّة القرّاء، لم يخالف في ذلك إلاّ حمزة ومن وافقه، قال الحافظ أبو عمرٍو في جامعه‏:‏ لا أعلم خلافاً في الجهر بالاستعاذة عند افتتاح القرآن، وعند ابتداء كلّ قارئٍ بعرضٍ، أو درسٍ، أو تلقينٍ في جميع القرآن، إلاّ ما جاء عن نافعٍ وحمزة‏.‏ وقيّد الإمام أبو شامة إطلاق اختيار الجهر بما إذا كان ذلك بحضرة من يسمع قراءته، لأنّ الجهر بالتّعوّذ إظهارٌ لشعائر القراءة كالجهر بالتّلبية وتكبيرات العيد، ومن فوائده أنّ السّامع ينصت للقراءة من أوّلها لا يفوته منها شيءٌ، وإذا أخفى التّعوّذ لم يعلم السّامع بالقراءة إلاّ بعد أن يفوته من المقروء شيءٌ، وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة خارج الصّلاة وفي الصّلاة، فإنّ المختار في الصّلاة الإخفاء، لأنّ المأموم منصتٌ من أوّل الإحرام بالصّلاة‏.‏

الثّاني‏:‏ التّخيير بين الجهر والإسرار، وهو الصّحيح عند الحنفيّة، قال ابن عابدين‏:‏ لكنّه يتّبع إمامه من القرّاء، وهم يجهرون بها إلاّ حمزة فإنّه يخفيها، وهو قول الحنابلة‏.‏

الثّالث‏:‏ الإخفاء مطلقاً، وهو قولٌ للحنفيّة، وروايةٌ للحنابلة، وهو روايةٌ عن حمزة‏.‏ الرّابع‏:‏ الجهر بالتّعوّذ في أوّل الفاتحة فقط، والإخفاء في سائر القرآن، وهو روايةٌ ثانيةٌ عن حمزة‏.‏ ولم أقف على رأي المالكيّة في مسألة الاستعاذة خارج الصّلاة، لكن يستأنس بما روي عن ابن المسيّب أنّه سئل عن استعاذة أهل المدينة أيجهرون بها أم يخفونها‏؟‏ قال‏:‏‏(‏ما كنّا نجهر ولا نخفي، ما كنّا نستعيذ ألبتّة‏)‏‏.‏

بعض المواضع الّتي يستحبّ فيها الإسرار‏:‏

9 - ذكر ابن الجزريّ بعض المواضع الّتي يستحبّ فيها الإسرار بالاستعاذة، منها ما إذا قرأ خالياً، سواءٌ أقرأ جهراً أمّ سرّاً، ومنها ما إذا قرأ سرّاً، ومنها ما إذا قرأ في الدّور ولم يكن في قراءته مبتدئاً يسرّ بالتّعوّذ، لتتّصل القراءة، ولا يتخلّلها أجنبيٌّ، فإنّ المعنى الّذي من أجله استحبّ الجهر - وهو الإنصات - فقد في هذه المواضع‏.‏

المراد بالإخفاء‏:‏

10 - ذكر ابن الجزريّ اختلاف المتأخّرين في المراد بالإخفاء، فقال‏:‏ إنّ كثيراً منهم قالوا‏:‏ هو الكتمان، وعليه حمل كلام الشّاطبيّ أكثر الشّرّاح، فعلى هذا يكفي فيه الذّكر في النّفس من غير تلفّظٍ‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ المراد به الإسرار وعليه حمل الجعبريّ كلام الشّاطبيّ، فلا يكفي فيه إلاّ التّلفّظ وإسماع نفسه، وهذا هو الصّواب، لأنّ نصوص المتقدّمين كلّها على جعله ضدّاً للجهر، وكونه ضدّاً للجهر يقتضي الإسرار به‏.‏

صيغ الاستعاذة وأفضلها‏:‏

11 - وردت صيغتان للاستعاذة عند القرّاء والفقهاء،

إحداهما‏:‏‏"‏ أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم ‏"‏ كما ورد في سورة النّحل من قوله تعالى ‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم‏}‏‏.‏ وهذا اختيار أبي عمرٍو وعاصمٍ وابن كثيرٍ رحمهم الله‏.‏ قال ابن الجزريّ‏:‏ إنّه المختار لجميع القرّاء من حيث الرّواية، وقال أبو الحسن السّخاويّ في كتابة ‏(‏جمال القرّاء‏)‏‏:‏ إنّ إجماع الأمّة عليه‏.‏ قال في النّشر‏:‏«وقد تواتر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّعوّذ به للقراءة ولسائر تعوّذاته»، وقال أبو عمرٍو الدّانيّ‏:‏ هو المأخوذ به عند عامّة الفقهاء، كأبي حنيفة، والشّافعيّ، وأحمد وغيرهم‏.‏ وفي الصّحيحين وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم في إذهاب الغضب‏:‏ «لو قال‏:‏ أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم لذهب عنه ما يجد» وفي غير الصّحيح «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ أمامه عبد اللّه بن مسعودٍ فقال‏:‏ أعوذ باللّه السّميع العليم فقال‏:‏ قل‏:‏ أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم وهكذا أخذته عن جبريل عن ميكائيل عن اللّوح المحفوظ»‏.‏

الثّانية‏:‏ ‏"‏ أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم إنّ اللّه هو السّميع العليم ‏"‏، حكي عن أهل المدينة، ونقله الرّازيّ في تفسيره عن أحمد، لقوله تعالى ‏{‏وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه هو السّميع العليم‏}‏ وروي عن عمر بن الخطّاب، ومسلم بن يسارٍ، وابن سيرين، والثّوريّ، وهو اختيار نافعٍ، وابن عامرٍ، والكسائيّ‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن يقول‏:‏ ‏"‏ أعوذ بالسّميع العليم من الشّيطان الرّجيم ‏"‏، قاله ابن سيرين كما في النّشر‏.‏

الرّابعة‏:‏ أن يقول‏:‏ «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان الرّجيم» رواه ابن ماجه بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد اللّه بن مسعودٍ مرفوعاً، ورواه أبو داود كما في النّشر‏.‏

وهناك صيغٌ أخرى أوردها صاحب النّشر‏.‏

الوقف على الاستعاذة‏:‏

12 - يجوز الوقف عليها والابتداء بما بعدها، بسملةً كانت أو غيرها، ويجوز وصلها بما بعدها، والوجهان صحيحان، وظاهر كلام الدّانيّ أنّ الأولى وصلها بالبسملة، ولم يذكر ابن شيطا وأكثر العراقيّين سوى وصل الاستعاذة بالبسملة‏.‏

فأمّا من لم يسمّ فالأشبه السّكوت عليها، ويجوز وصلها‏.‏

إعادة الاستعاذة عند قطع القراءة‏:‏

13 - إذا قطع القارئ القراءة لعذرٍ، من سؤالٍ أو كلامٍ يتعلّق بالقراءة، لم يعد التّعوّذ لأنّها قراءةٌ واحدةٌ‏.‏ وفي ‏(‏مطالب أولي النّهى‏)‏‏:‏ العزم على الإتمام بعد زوال العذر شرطٌ لعدم الاستعاذة‏.‏ أمّا إذا كان الكلام أجنبيّاً، أو كان القطع قطع تركٍ وإهمالٍ فإنّه يعيد التّعوّذ،

قال النّوويّ‏:‏ يعتبر السّكوت والكلام الطّويل سبباً للإعادة‏.‏

الاستعاذة لدخول الخلاء‏:‏

14 - تستحبّ الاستعاذة عند دخول الخلاء، ويجمع معها التّسمية، ويبدأ بالتّسمية باتّفاق المذاهب الأربعة‏.‏ أمّا بعد الدّخول فلا يقولها عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، ويوافقهم المالكيّة إن كان المحلّ معدّاً لذلك‏.‏

وقيل يتعوّذ وإن كان معدّاً لذلك‏.‏ ونسبه العينيّ إلى مالكٍ‏.‏

صيغ الاستعاذة لدخول الخلاء‏:‏

15 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو المذهب عند الحنابلة - أنّ صيغة الاستعاذة لدخول الخلاء هي‏:‏‏"‏ بسم اللّه اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث ‏"‏، لما روى أنسٌ رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء يقول‏:‏ اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث»‏.‏ وروي أيضاً عن أحمد أنّه يقول الرّجل إذا دخل الخلاء‏:‏ أعوذ باللّه من الخبث والخبائث، ولم يذكر التّسمية في هذه الرّواية‏.‏وزاد الغزاليّ‏:‏ اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس الخبيث المخبث الشّيطان الرّجيم، لما روي عن أبي أمامة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول‏:‏ اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس الخبيث المخبث الشّيطان الرّجيم»‏.‏ والخبث بضمّ الباء‏:‏ ذكران الشّياطين، والخبائث‏:‏ إناثهم، وقال أبو عبيدٍ‏:‏ الخبث بإسكان الباء‏:‏ الشّرّ، والخبائث‏:‏ الشّياطين‏.‏ قال الحطّاب‏:‏ وخصّ هذا الموضع بالاستعاذة لوجهين‏.‏

الأوّل‏:‏ بأنّه خلاءٌ، وللشّياطين بقدرة اللّه تعالى تسلّطٌ بالخلاء ما ليس لهم في الملأ‏.‏ الثّاني‏:‏ أنّ موضع الخلاء قذرٌ ينزّه ذكر اللّه تعالى فيه عن جريانه على اللّسان، فيغتنم الشّيطان عدم ذكره، لأنّ ذكر اللّه تعالى يطرده، فأمر بالاستعاذة قبل ذلك ليعقدها عصمةً بينه وبين الشّيطان حتّى يخرج‏.‏

الاستعاذة للتّطهّر‏:‏

16 - عند الحنفيّة، قال الطّحاويّ‏:‏ يأتي بها قبل التّسمية، غير أنّه لم يوضّح حكمها‏.‏ وتستحبّ الاستعاذة للوضوء سرّاً عند الشّافعيّة قبل التّسمية، قال الشّروانيّ‏:‏ وأن يزيد بعدها‏:‏ الحمد للّه الّذي جعل الماء طهوراً، والإسلام نوراً، ‏{‏ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون‏}‏‏.‏ ولم يثبت عند المالكيّة من الأذكار في الوضوء إلاّ التّشهّدان آخره، والتّسمية أوّله‏.‏ ولم نقف للحنابلة على نصٍّ صريحٍ فيها‏.‏ ولم يتعرّض الفقهاء فيما اطّلعنا عليه للاستعاذة عند الغسل والتّيمّم، إلاّ أنّهم متّفقون على أنّ الوضوء قبل الغسل مندوبٌ، فيجري عليه ما تقدّم من أحكام الاستعاذة عند الوضوء‏.‏ وما أحسن ما جاء في الفروع لابن مفلحٍ‏:‏ أنّ التّعوّذ يستحبّ عند كلّ قربةٍ فيدخل فيها هذا وما كان مثله‏.‏

الاستعاذة عند دخول المسجد والخروج منه‏:‏

17 - نصّ المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة على ندب الاستعاذة عند دخول المسجد، وقد وردت صيغة الاستعاذة لدخول المسجد فيما ورد‏:‏ «أعوذ باللّه العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشّيطان الرّجيم» الحمد للّه، اللّهمّ صلّ وسلّم على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ‏.‏ اللّهمّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثمّ يقول‏:‏ باسم اللّه، ويقدّم اليمنى في الدّخول، ويقدّم اليسرى في الخروج ويقول جميع ما ذكرناه إلاّ أنّه يقول‏:‏ أبواب فضلك بدل رحمتك‏.‏ وأمّا الحنفيّة فلم نقف لهم على قولٍ في ذلك‏.‏

أمّا عند الخروج من المسجد، فقد نصّ الشّافعيّة، والحنابلة على ندب الاستعاذة حينئذٍ‏.‏ قال الشّافعيّة‏:‏ يستعيذ بما استعاذ به عند الدّخول، وقد أخذ الحنابلة في ذلك بما ورد من حديث «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من إبليس وجنوده»‏.‏ ولم يوقف للحنفيّة، والمالكيّة على شيءٍ في ذلك، غير أنّ الحنفيّة ذكروا الاستعاذة عند الخروج من المسجد الحرام‏.‏

الاستعاذة في الصّلاة‏:‏حكمها‏:‏

18 - الاستعاذة في الصّلاة سنّةٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة، وهو المذهب عند الحنابلة، وعن أحمد روايةٌ أخرى أنّه واجبٌ‏.‏ أمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ إنّها جائزةٌ في النّفل، مكروهةٌ في الفرض‏.‏ ويكتفى في الاستدلال على هذه الأقوال بما تقدّم في الاستدلال على أحكامها في قراءة القرآن، فيما عدا دليل المالكيّة على الكراهة، وحجّتهم أنّ الشّيطان يدبر عند الأذان والتّكبير، كما استدلّوا بما روي عن أنسٍ قال‏:‏«صلّيت خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكرٍ وعمر وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد للّه ربّ العالمين‏.‏»

محلّ الاستعاذة في الصّلاة‏:‏

19 - تكون الاستعاذة قبل القراءة عند الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، وهو قولٌ عند المالكيّة، وهو ظاهر المدوّنة، والقول الآخر للمالكيّة محلّها بعد أمّ القرآن، كما في المجموعة‏.‏ ويستدلّ على ذلك بما تقدّم في محلّ الاستعاذة عند قراءة القرآن ‏(‏ف 7‏)‏‏.‏

تبعيّة الاستعاذة في الصّلاة‏:‏

20 - الاستعاذة إمّا أن تكون تابعةً لدعاء الاستفتاح ‏(‏الثّناء‏)‏ أو للقراءة، وتبعيّتها للقراءة قال به أبو حنيفة ومحمّدٌ والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، ودليلهم على ذلك أنّها سنّة القراءة فيأتي بها كلّ قارئٍ، لأنّها شرعت صيانةً عن وساوس الشّيطان في القراءة‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ إنّها تبعٌ للثّناء، لأنّها لدفع الوسواس في الصّلاة مطلقاً‏.‏ وليس للخلاف ثمرةٌ إلاّ بين أبي حنيفة ومحمّدٍ، وبين أبي يوسف، وتظهر في مسائل منها‏:‏ أنّه لا يأتي بها المقتدي عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، لأنّه لا قراءة عليه، ويأتي بها عند أبي يوسف، لأنّه يأتي بالثّناء وهي تابعةٌ له‏.‏

فوات التّعوّذ‏:‏

21 - يفوت التّعوّذ بالشّروع في القراءة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وذلك لفوات المحلّ، وترك الفرض لأجل السّنّة مرفوضٌ‏.‏ ومقتضى قواعد المالكيّة كذلك في النّفل، فهي سنّةٌ قوليّةٌ لا يعود إليها‏.‏

الإسرار والجهر بالاستعاذة في الصّلاة‏:‏

22 - للفقهاء في ذلك ثلاثة آراءٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ استحباب الإسرار، وبه قال الحنفيّة، وفي الفتاوى الهنديّة‏:‏ أنّه المذهب، ومعهم في هذا الحنابلة، إلاّ ما استثناه ابن قدامة، وعلى هذا أيضاً المالكيّة في أحد قوليهم، وهو الأظهر عند الشّافعيّة‏.‏ والدّليل على استحباب الإسرار قول ابن مسعودٍ رضي الله عنه أربعٌ يخفيهنّ الإمام، وذكر منها‏:‏ التّعوّذ والتّسمية وآمين، ولأنّه لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم الجهر‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ استحباب الجهر، وهو قول المالكيّة في ظاهر المدوّنة، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة، ويجهر في بعض الأحيان في الجنازة ونحوها ممّا يطلب الإسرار فيه تعليماً للسّنّة، ولأجل التّأليف، واستحبّها ابن قدامة وقال‏:‏ اختار ذلك ابن تيميّة‏.‏ وقال في الفروع‏:‏ إنّه المنصوص عن أحمد، وسندهم في الجهر قياس الاستعاذة على التّسمية وآمين‏.‏

الرّأي الثّالث‏:‏ التّخيير بين الإسرار والجهر، وهو قولٌ للشّافعيّة، جاء في الأمّ‏:‏ كان ابن عمر رضي الله عنهما يتعوّذ في نفسه، وأبو هريرة رضي الله عنه يجهر به‏.‏

تكرار الاستعاذة في كلّ ركعةٍ‏:‏

23 - الاستعاذة مشروعةٌ في الرّكعة الأولى باتّفاقٍ، أمّا تكرارها في بقيّة الرّكعات فإنّ الفقهاء يختلفون فيه على رأيين‏:‏

الأوّل‏:‏ استحباب التّكرار في كلّ ركعةٍ، وهو قول ابن حبيبٍ من المالكيّة، ولم ينقل أنّ أحداً منهم خالفه، وهو المذهب عند الشّافعيّة، وهو روايةٌ عن أحمد صحّحها صاحب الإنصاف بل قال ابن الجوزيّ‏:‏ روايةٌ واحدةٌ‏.‏ والدّليل على ذلك قول اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم‏}‏ وقد وقع الفصل بين القراءتين، فأشبه ما لو قطع القراءة خارج الصّلاة بشغلٍ، ثمّ عاد إليها يستحبّ له التّعوّذ، ولأنّ الأمر معلّقٌ على شرطٍ فيتكرّر بتكرّره، كما في قوله تعالى ‏{‏وإن كنتم جنباً فاطّهّروا‏}‏ وأيضاً إن كانت مشروعةً في الرّكعة الأولى فهي مشروعةٌ في غيرها من الرّكعات قياساً، للاشتراك في العلّة‏.‏ الثّاني‏:‏ كراهية تكرار الاستعاذة في الرّكعة الثّانية وما بعدها عند الحنفيّة، وقولٌ للشّافعيّة، وهو المذهب عند الحنابلة‏.‏ وحجّتهم أنّه كما لو سجد للتّلاوة في قراءته ثمّ عاد إليها لا يعيد التّعوّذ، وكأنّ رابطة الصّلاة تجعل الكلّ قراءةً واحدةً، غير أنّ المسبوق إذا قام للقضاء يتعوّذ عند أبي يوسف‏.‏

صيغة الاستعاذة في الصّلاة‏:‏

24 - تحصل الاستعاذة في الصّلاة بكلّ ما اشتمل على التّعوّذ من الشّيطان عند الشّافعيّة، وقيّده البيجوريّ بما إذا كان وارداً‏.‏ وعلى هذا الحنابلة، فكيفما تعوّذ من الذّكر الوارد فحسنٌ‏.‏ واقتصر الحنفيّة على ‏"‏ أعوذ ‏"‏ أو ‏"‏ أستعيذ ‏"‏‏.‏ ولم نجد للمالكيّة نصّاً في هذه المسألة‏.‏ وأفضل الصّيغ على الإطلاق عند الشّافعيّة ‏"‏ أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم ‏"‏ وهو المختار عند الحنفيّة، وقول الأكثر من الأصحاب منهم ومن الحنابلة، لأنّه المنقول من استعاذته عليه الصلاة والسلام، قال ابن المنذر‏:‏ جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه كان يقول قبل القراءة‏:‏ أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم»‏.‏ وجاء عن أحمد أنّه يقول‏:‏ «أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم» لحديث أبي سعيدٍ فإنّه متضمّنٌ لهذه الزّيادة‏.‏ ونقل حنبلٌ عنه أنّه يزيد بعد ذلك ‏"‏ إنّ اللّه هو السّميع العليم ‏"‏‏.‏

وفي فتح القدير لا ينبغي أن يزيد عليه ‏"‏ إنّ اللّه هو السّميع العليم ‏"‏‏.‏

استعاذة المأموم‏:‏

25 - لا يختلف حكم الاستعاذة بالنّسبة للإمام عمّا لو كان منفرداً‏.‏ أمّا المأموم فتستحبّ له عند الشّافعيّة سواءٌ أكانت الصّلاة سرّيّةً أم جهريّةً، ومعهم أبو يوسف من الحنفيّة، لأنّ التّعوّذ للثّناء عنده، وهو إحدى رواياتٍ ثلاثٍ عن أحمد‏.‏

وتكره للمأموم تحريماً عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، لأنّها تابعةٌ للقراءة، ولا قراءة على المأموم، لكن لا تفسد صلاته إذا استعاذ في الأصحّ، وعلى هذا الرّواية الثّانية عن أحمد، أمّا الرّواية الثّالثة عنه فهي إن سمع الإمام كرهت وإلاّ فلا، وذهب المالكيّة إلى جوازها للإمام والمأموم في النّفل‏.‏ أمّا في الفرض فمكروهةٌ لهما كما سبق‏.‏

الاستعاذة في خطبة الجمعة‏:‏

26 - من سنن خطبة الجمعة عند الحنفيّة‏:‏ أن يستعيذ في الخطبة الأولى في نفسه سرّاً قبل الحمد‏.‏ ويستدلّ لهم بما قال سويدٌ‏:‏ سمعت أبا بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه يقول على المنبر‏:‏ أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم‏.‏ ولم نجد عند بقيّة المذاهب كلاماً في ذلك‏.‏

محلّ الاستعاذة في صلاة العيد‏:‏

27 - يستعيذ بعد تكبيرات الزّوائد عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، وكذلك عند الشّافعيّة تكون بعد التّكبير، وهو قولٌ عن أحمد، لأنّها تبعٌ للقراءة‏.‏ وتكون قبل تكبيرات الزّوائد عند المالكيّة، وأبي يوسف من الحنفيّة، لأنّها تبعٌ للثّناء، وهو إحدى الرّوايات عن أحمد‏.‏

حكمها، ومحلّها في صلاة الجنازة‏:‏

28 - لا يختلف حكم الاستعاذة في الجنازة عن حكمها في الصّلاة المطلقة، ويجري فيها الخلاف الّذي جرى في الصّلاة المطلقة‏.‏

المستعاذ به‏:‏

29 - الاستعاذة تكون باللّه تعالى، وأسمائه، وصفاته، وقال البعض‏:‏ لا بدّ فيما يقرأ من القرآن للتّعوّذ أن يكون ممّا يتعوّذ به، لا نحو آية الدّين‏.‏ ويجوز الاستعاذة بالإنسان فيما هو داخلٌ تحت قدرته الحادثة، كأن يستجير به من حيوانٍ مفترسٍ، أو من إنسانٍ يريد الفتك به‏.‏ ويحرم الاستعاذة بالجنّ والشّياطين، لأنّ اللّه تعالى أخبر أنّ من استعاذ بهم زادوه رهقاً، كما في قوله تعالى ‏{‏وأنّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنّ فزادوهم رهقاً‏}‏

المستعاذ منه‏:‏

30 - يصعب ذكر المستعاذ منه تفصيلاً، وقد عنيت كتب التّفسير، والحديث، والأذكار بكثيرٍ من هذه الأمور، وتكفي الإشارة إلى بعض أنواع المستعاذ منه على سبيل التّمثيل‏.‏ من ذلك‏:‏ الاستعاذة من بعض صفات اللّه ببعض صفاته سبحانه‏.‏ ومنه الاستعاذة من الشّرّ كلّه - شرّ النّفس والحواسّ، والأماكن والرّيح وغير ذلك‏.‏ ومن ذلك‏:‏ الاستعاذة من الهرم وكآبة المنقلب، ومن الشّقاق، والنّفاق، وسوء الأخلاق، ومن الجبن والبخل‏.‏

إجابة المستعيذ‏:‏

31 - يندب للإنسان إجابة من استعاذ به في أمرٍ مقدورٍ له، وقد تكون الإعاذة واجباً كفائيّاً أو عينيّاً، لما روي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما«من استعاذكم باللّه فأعيذوه، ومن سألكم باللّه فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه إلخ»‏.‏ وقد يكون المستعيذ باللّه مستغيثاً، فيكون تفصيل الحكم في مصطلح ‏(‏استغاثةٌ‏)‏ أولى‏.‏

تعليق التّعويذات‏:‏

يرجع في حكم تعليق التّعويذات إلى مصطلح ‏(‏تميمةٌ‏)‏‏.‏

استعارةٌ

التعريف

1 - الاستعارة هي‏:‏ طلب الإعارة، والإعارة تمليك المنفعة بلا عوضٍ‏.‏

صفتها‏:‏ حكمها التّكليفي

2 - الأصل أنّ من أبيح له أخذ شيءٍ أبيح له طلبه، ومن لا فلا‏.‏ ويختلف حكمها بحسب الحالة الّتي يتمّ فيها الطّلب‏.‏ فقد تكون الاستعارة واجبةً إذا توقّف عليها إحياء نفسٍ، أو حفظ عرضٍ، أو نحو ذلك من الأمور الضّروريّة، لأنّ سدّ الضّرورات واجبٌ لا يجوز التّساهل فيه، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجبٌ‏.‏

وقد تكون مندوبةً ليستعين بها على الخير كاستعارة الكتب النّافعة‏.‏ وتكون الاستعارة مكروهةً، عندما يكون فيها منّةٌ، ولحاجةٍ له مندوحةٌ عنها، وقد عدّ الفقهاء من ذلك استعارة الفرع أصله لخدمته، لما في ذلك من ذلّ الخدمة الّتي يجب أن ينزّه عنها الآباء‏.‏ وقد تكون الاستعارة محرّمةً، كما لو استعار شيئاً ليتعاطى به تصرّفاً محرّماً، كاستعارته سلاحاً ليقتل به بريئاً، أو آلة لهوٍ ليجمع عليها الفسّاق ونحو ذلك‏.‏

آداب الاستعارة

3 - من آدابها‏:‏

أ - ألا يذلّ نفسه، بل إن استعار استعار بعزٍّ، والفرق بين الاستعارة والاستجداء‏:‏ أنّ الاستجداء يكون مع الذّلّ، والاستعارة تكون مع العزّ، ولذلك كان عليه أن يترك الاستعارة ممّن يمنّ عليه طالما له مندوحةٌ عن ذلك كما تقدّم‏.‏

ب - وألاّ يلحف في طلب الإعارة، والإلحاف هو إعادة السّؤال بعد الرّدّ، وقد ذمّ اللّه الملحفين بالسّؤال بقوله تعالى ‏{‏تعرفهم بسيماهم لا يسألون النّاس إلحافاً‏}‏ وإنّما نهى عنه لأنّ هذا الإلحاف قد يخرج المعير عن طوره، فيقع في شيءٍ من المحظورات، كالكلام البذيء ونحو ذلك، وهو أذًى ينزله المستعير بالمعير، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تلحفوا في المسألة»‏.‏ ولكن يجوز التّكرار لبيان مسيس الحاجة إلى الاستعارة‏.‏

ج - وأن يقدّم الاستعارة من الرّجل الصّالح على الاستعارة من غيره، لما يتحرّاه الصّالحون من المال الحلال، ولما يحملونه من نفوسٍ طيّبةٍ تجود بالخير‏.‏

قال النّبيّ عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن كنت سائلاً لا بدّ فاسأل الصّالحين»‏.‏

د - وألاّ يسأل بوجه اللّه، ولا بحقّ اللّه، كقوله‏:‏ أسألك بوجه اللّه، أو بحقّ اللّه أن تعيرني كذا، لما فيه من اتّخاذ اسم اللّه تعالى آلةً‏.‏

قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يسأل بوجه اللّه إلاّ الجنّة» وقال‏:‏ «ملعونٌ من سأل بوجه اللّه»‏.‏ وللتّفصيل يرجع إلى ‏(‏إعارةٌ‏)‏‏.‏

استعانةٌ

التعريف

1 - الاستعانة مصدر استعان، وهي‏:‏ طلب العون، يقال‏:‏ استعنته واستعنت به فأعانني والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - تنقسم الاستعانة إلى استعانةٍ باللّه، واستعانةٍ بغيره‏.‏ فالاستعانة باللّه سبحانه وتعالى مطلوبةٌ في كلّ شيءٍ‏:‏ مادّيٍّ مثل قضاء الحاجات، كالتّوسّع في الرّزق، ومعنويٍّ مثل تفريج الكروب، مصداقاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إيّاك نعبد وإيّاك نستعين‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال موسى لقومه‏:‏ استعينوا باللّه واصبروا‏}‏‏.‏ وتكون الاستعانة بالتّوجّه إلى اللّه تعالى بالدّعاء، كما تكون بالتّوجّه إليه تعالى بفعل الطّاعات، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصّبر والصّلاة‏}‏‏.‏

3 - أمّا الاستعانة بغير اللّه، فإمّا أن تكون بالإنس أو بالجنّ‏.‏ فإن كانت الاستعانة بالجنّ فهي ممنوعةٌ، وقد تكون شركاً وكفراً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنّ فزادوهم رهقاً‏}‏‏.‏

4 - وأمّا الاستعانة بالإنس فقد اتّفق الفقهاء على أنّها جائزةٌ فيما يقدر عليه من خيرٍ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏ وقد يعتريها الوجوب عند الاضطرار، كما لو وقع في تهلكةٍ وتعيّنت الاستعانة طريقاً للنّجاة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة‏}‏‏.‏

استعانة المسلم بغير المسلم في القتال

5 - أجاز الحنفيّة والحنابلة استعانة المسلم بغيره في القتال عند الضّرورة، والشّافعيّة بشروطٍ، والمالكيّة بشرط رضاه وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏جهادٌ‏)‏

الاستعانة بغير المسلمين في غير القتال

6 - تجوز الاستعانة في الجملة بغير المسلم، سواءٌ أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم في غير القربات، كتعليم الخطّ والحساب والشّعر المباح، وبناء القناطر والمساكن والمساجد وغيرها فيما لا يمنع من مزاولته شرعاً‏.‏ ولا تجوز الاستعانة به في القربات كالأذان والحجّ وتعليم القرآن، وفي الأمور الّتي يمنع من مزاولتها شرعاً، كاتّخاذه في ولايةٍ على المسلمين، أو على أولادهم‏.‏ وقد تباح الاستعانة بأهل الكتاب، دون غيرهم من المشركين والمجوس ومن على شاكلتهم في بعض الأمور، مثل الصّيد والذّبح،

أمّا المشرك والمجوسيّ فلا يتولّى الاصطياد والذّبح لمسلمٍ، وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح ‏(‏إجارةٌ‏)‏ ‏(‏وصيدٌ‏)‏ ‏(‏وذبائح‏)‏ ‏(‏وأطعمةٌ‏)‏ ‏(‏ووكالةٌ‏)‏‏.‏

الاستعانة بأهل البغي، وعليهم

7 - قال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يجوز الاستعانة بأهل البغي على الكفّار، ولم يجز الاستعانة بالكفّار عليهم إلاّ الحنفيّة‏.‏ ولتفصيل ذلك ينظر إلى مصطلح ‏(‏بغاةٌ‏)‏

الاستعانة بالغير في العبادة

8 - الاستعانة بالغير في أداء العبادة جائزةٌ، ولكن هل يعتبر ذلك قدرةً ملزمةً لمن لا يستطيع الأداء إلاّ بها‏؟‏ قال بعض الحنفيّة، ووافقهم الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يعتبر الإنسان قادراً، إذا وجد من يعينه على العبادة، مثل الوضوء، أو القيام في الصّلاة‏.‏

وقال بعض الحنفيّة، وهو المفهوم عند المالكيّة‏:‏ لا يصير قادراً بإعانة غيره، لأنّ المعونة تعتبر له نافلةً‏.‏

استعطاءٌ

انظر‏:‏ ‏(‏عطاءٌ‏)‏، ‏(‏عطيّةٌ‏)‏‏.‏

استعلاءٌ

التعريف

1 - الاستعلاء في اللّغة‏:‏ استفعالٌ من العلوّ، وهو السّموّ والارتفاع‏.‏ والمستعلي من الحروف‏:‏ المفخّم منها، ومعنى استعلائها‏:‏ أنّها تتصعّد في الحنك الأعلى، واستعلى على النّاس‏:‏ غلبهم وقهرهم وعلاهم‏.‏

وفي اصطلاح علماء الأصول يستعمل الاستعلاء بمعنى إظهار العلوّ، سواءٌ أكان هناك علوٌّ في الواقع أم لا وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏أمرٌ‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - التّكبّر‏:‏ هو إظهار الكبر أي العظمة‏.‏ وتعريفه شرعاً‏:‏ بطر الحقّ وغمط النّاس، كما جاء في الحديث‏.‏ وهو في صفات اللّه تعالى مدحٌ، لأنّ شأنه عظيمٌ، وفي صفاتنا ذمٌّ، لأنّ شأننا صغيرٌ، وهو أهلٌ للعظمة ولسنا بأهلٍ لها‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - يرى جمهور الأصوليّين أنّ الاستعلاء شرطٌ في الأمر، وذلك احترازاً عن الدّعاء والالتماس‏.‏

مواطن البحث

4 - الاستعلاء كشرطٍ في الأمر يبحثه الأصوليّون في مسألة الأمر عند الحديث عن شروطه، ودلالة حرف ‏"‏ على ‏"‏ على الاستعلاء يبحث في مسائل حروف الجرّ، عند الحديث عن حرف الجرّ ‏"‏ على ‏"‏ وتفصيل ذلك في المصطلح الأصوليّ‏.‏

استعمالٌ

التعريف

1 - الاستعمال في اللّغة‏:‏ طلب العمل، أو توليته، واستعمله‏:‏ عمل به، واستعمل فلانٌ‏:‏ ولي عملاً من أعمال السّلطة، وحبلٌ مستعملٌ‏:‏ قد عمل به ومهن‏.‏

والاستعمال في عرف الفقهاء لا يخرج عن معناه اللّغويّ، حيث عبّر الفقهاء عنه بمعانيه اللّغويّة الواردة في التعريف كما سيأتي بعد، ومن ذلك قولهم الماء المستعمل‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

استئجارٌ‏:‏

2 - الاستئجار استفعالٌ من الإجارة، واستأجره‏:‏ اتّخذه أخيراً على العمل بأجرٍ‏.‏ فالاستعمال أعمّ، لأنّه قد يكون بأجرٍ، وقد يكون بغير أجرٍ‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - يختلف حكم الاستعمال بحسب نوعه، وللاستعمال أنواعٌ مختلفةٌ‏:‏ ومنها استعمال الآلات، واستعمال الموادّ، ومنها استعمال الأشخاص‏.‏

استعمال الموادّ، ومن صوره

أ - استعمال الماء‏:‏

4 - إذا استعمل الماء المطلق للطّهارة من أحد الحدثين امتنع إطلاق اسم الماء عليه دون قيدٍ، وصار له حكمٌ آخر من حيث الطّهوريّة‏.‏ فيقرّر الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّه طاهرٌ في نفسه غير مطهّرٍ لغيره، وخالف في هذا المالكيّة، حيث أجازوا التّطهّر به مع الكراهة إن وجد غيره، وإلاّ فلا كراهة، وتفصيل ذلك في بحث المياه من كتب الفقه‏.‏

ب - استعمال الطّيب‏:‏

5 - استعمال الطّيب مستحبٌّ في الجملة، إلاّ في الإحرام، أو الإحداد، أو خوف الفتنة بالنّساء عند الخروج من البيوت‏.‏ ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرامٌ‏)‏ ‏(‏وإحدادٌ‏)‏‏.‏

ج - استعمال جلود الميتة‏:‏

6 - استعمال جلود الميتة عند المالكيّة والحنابلة غير جائزٍ في الجملة، وكذلك عند الشّافعيّة قبل الدّبغ، وقد أجاز ذلك الحنفيّة بعد قطع الرّطوبة بالتّشميس أو التّتريب‏.‏ ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏دباغةٌ‏)‏‏.‏

د - استعمال أواني الذّهب والفضّة‏:‏

7 - منع العلماء استعمال أواني الذّهب والفضّة في الأكل والشّرب، لما ورد فيها من نصوصٍ منها‏:‏ قول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنّها لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة»‏.‏

ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏آنيةٌ‏)‏‏.‏

الاستعمال الموجب للضّمان

8 - قرّر الفقهاء في الجملة أنّ استعمال المرهون الوديعة يعتبر تعدّياً يضمن بموجبه، لأنّ التّعدّي سببٌ للضّمان مطلقاً، ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏رهنٌ‏)‏ ‏(‏ووديعةٌ‏)‏ ‏(‏وضمانٌ‏)‏‏.‏

استعمال الإنسان

9 - يجوز استعمال الإنسان متطوّعاً وبأجرٍ، مثل الاستعمال على الإمامة والقضاء بشروطٍ معيّنةٍ، يرجع في تفصيلها إلى الولاية والإمامة والقضاء في كتب الفقه‏.‏

وكذا استعمال الإنسان في الصّناعة والخدمة والتّجارة‏.‏ ومنه قول العبّاس بن سهلٍ السّاعديّ في صنع المنبر النّبويّ‏:‏ ‏"‏ فذهب أبي، فقطع عيدان المنبر من الغابة، قال‏:‏ فما أدري عملها أبي أو استعملها ‏"‏‏.‏

ويرجع في تفصيل ذلك إلى مصطلح ‏(‏استصناعٌ‏)‏ ‏(‏وإجارةٌ‏)‏ ‏(‏ووكالةٌ‏)‏

استغاثةٌ

التعريف

1 - الاستغاثة لغةً‏:‏ طلب الغوث والنّصر‏.‏ والاستغاثة شرعاً‏:‏ لا تخرج في المعنى عن التعريف اللّغويّ، حيث تكون للعون، وتفريج الكروب‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الاستخارة‏:‏

2 - الاستخارة لغةً‏:‏ طلب الخيرة في الشّيء‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ طلب صرف الهمّة لما هو المختار عند اللّه، والأولى بالصّلاة والدّعاء‏.‏

فالاستخارة أخصّ، لأنّها لا تطلب إلاّ من اللّه‏.‏

الاستعانة‏:‏

3 - الاستعانة‏:‏ طلب العون‏.‏ استعنت بفلانٍ طلبت معونته فأعانني، وعاونني‏.‏ وتكون من العباد فيما يقدرون عليه، ومن اللّه ‏{‏إيّاك نعبد وإيّاك نستعين‏}‏ فالفرق أنّ الاستغاثة لا تكون إلاّ في الشّدّة‏.‏

حكم الاستغاثة

4 - للاستغاثة أربعة أحكامٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ الإباحة، وذلك في طلب الحوائج من الأحياء، إذا كانوا يقدرون عليها - ومن ذلك الدّعاء فإنّه يباح طلبه من كلّ مسلمٍ، بل يحسن ذلك - فله أن يستغيث بالمخلوقين أو لا يستغيث، ولكن لا يجب أن يطلب منهم على جهة السّؤال والذّلّ والخضوع والتّضرّع لهم كما يسأل اللّه تعالى، لأنّ مسألة المخلوقين في الأصل محرّمةٌ، ولكنّها أبيحت عند الحاجة والضّرورة، والأفضل الاستعفاف عنها إلاّ إذا ترتّب على ترك الاستغاثة هلاكٌ، أو حدٌّ، أو ضمانٌ، فإنّه يجب عليه أن يدفع بالاستغاثة أوّلاً‏.‏ فإن لم يفعل أثم وترتّب عليه سبق ضمانٍ للدّماء والحقوق على تفصيلٍ سيأتي‏.‏

الثّاني‏:‏ النّدب، وذلك إذا استغاث باللّه، أو بصفةٍ من صفاته في الشّدّة والكرب ‏{‏أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السّوء‏}‏‏.‏

الثّالث‏:‏ الوجوب، وذلك إذا ترتّب على ترك الاستغاثة هلاكٌ أو ضمانٌ، فإن تركه مع وجوبه أثم‏.‏

الرّابع‏:‏ التّحريم، وذلك إذا استغاث بمن لا يملك في الأمور المعنويّة بالقوّة أو التّأثير، سواءٌ كان المستغاث به إنساناً، أو جنّاً، أو ملكاً، أو نبيّاً، في حياته، أو بعد مماته ‏{‏ولا تدع من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرّك‏}‏‏.‏

الاستغاثة باللّه

5 - أ - في الأمور العادية‏:‏ أجمع علماء الأمّة على استحباب الاستغاثة باللّه تبارك وتعالى، سواءٌ أكان ذلك من قتال عدوٍّ أم اتّقاء سبعٍ أم نحوه‏.‏ لاستغاثة الرّسول صلى الله عليه وسلم باللّه في موقعة بدرٍ، وقد أخبرنا القرآن بذلك‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين‏}‏، ولما روي عن خولة بنت حكيم بن حزامٍ رضي الله عنها قالت‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من نزل منزلاً ثمّ قال‏:‏ أعوذ بكلمات اللّه التّامّات من شرّ ما خلق لم يضرّه شيءٌ حتّى يرتحل من منزله»‏.‏

ب - وتستحبّ أيضاً الاستغاثة باللّه في الأمور المعنويّة بالقوّة والتّأثير، وفيما لا يقدر عليه إلاّ اللّه سبحانه وتعالى‏.‏ مثل إنزال المطر، وكشف الضّرّ، وشفاء المرض، وطلب الرّزق، ونحو ذلك ممّا لا يقدر عليه إلاّ اللّه تبارك وتعالى، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تدع من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فعلت فإنّك إذاً من الظّالمين‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك اللّه بضرٍّ فلا كاشف له إلاّ هو‏}‏‏.‏

ويستغاث باسم اللّه أو بصفةٍ من صفاته، لما روي عن أنس بن مالكٍ‏:‏ قال‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمرٌ قال‏:‏ يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث»

الاستغاثة بالرّسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

6 - الاستغاثة بالرّسول أقسامٌ‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ الاستغاثة بالرّسول فيما يقدر عليه‏.‏

اتّفق الفقهاء على جواز الاستغاثة برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبكلّ مخلوقٍ حال حياته فيما يقدر عليه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر‏}‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوّه‏}‏ وهي من قبيل العون والنّجدة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتّقوى‏}‏‏.‏

القسم الثّاني‏:‏الاستغاثة بالرّسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، وسيأتي الكلام عليها والخلاف فيها‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ أن يستغيث العبد باللّه تعالى متقرّباً برسوله صلى الله عليه وسلم، كأن يقول‏:‏ اللّهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أن تفعل كذا كما سيأتي‏.‏

القسم الرّابع‏:‏ الاستغاثة بذات الرّسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي‏.‏

أنواع الاستغاثة بالخلق

7 - والاستغاثة بالخلق - فيما لا يقدرون عليه - تكون على أربع صورٍ‏:‏

أوّلها‏:‏ أن يسأل اللّه بالمتوسّل به تفريج الكربة، ولا يسأل المتوسّل به شيئاً، كقول القائل‏:‏ اللّهمّ بجاه رسولك فرّج كربتي‏.‏ وهو على هذا سائلٌ للّه وحده، ومستغيثٌ به، وليس مستغيثاً بالمتوسّل به‏.‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ هذه الصّورة ليست شركاً، لأنّها استغاثةٌ باللّه تبارك وتعالى، وليست استغاثةً بالمتوسّل به؛ ولكنّهم اختلفوا في المسألة من حيث الحلّ والحرمة على ثلاثة أقوالٍ‏:‏

8 - القول الأوّل‏:‏ جواز التّوسّل بالأنبياء والصّالحين حال حياتهم وبعد مماتهم‏.‏ قال به مالكٌ، والسّبكيّ، والكرمانيّ، والنّوويّ، والقسطلاّنيّ، والسّمهوديّ، وابن الحاجّ، وابن الجزريّ‏.‏

9 - واستدلّ القائلون بجواز الاستغاثة بالأنبياء والصّالحين بأدلّةٍ كثيرةٍ، منها ما ورد من الأدعية المأثورة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثل «أسألك بحقّ السّائلين عليك، وبحقّ ممشاي هذا إليك» ‏.‏ ومنها ما قاله الرّسول صلى الله عليه وسلم في الدّعاء لفاطمة بنت أسدٍ «اغفر لأمّي فاطمة بنت أسدٍ، ووسّع عليها مدخلها، بحقّ نبيّك والأنبياء الّذين من قبلي، فإنّك أرحم الرّاحمين»‏.‏ ومن الأدلّة حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من زار قبري وجبت له شفاعتي»‏.‏ وما ورد من حديث المعراج «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على موسى وهو قائمٌ يصلّي في قبره» والصّلاة تستدعي حياة البدن‏.‏ وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما عند قوله تعالى ‏{‏وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا‏}‏ أنّه قال‏:‏ كان أهل خيبر تقاتل غطفان، كلّما التقتا هزمت غطفان اليهود، فدعت اليهود بهذا الدّعاء‏:‏ اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ الّذي وعدتنا أن تخرجه لنا إلاّ نصرتنا عليهم‏.‏ فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدّعاء فتهزم اليهود غطفان‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرّسول لوجدوا اللّه توّاباً رحيماً‏}‏‏.‏

وهذا تفخيمٌ للرّسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع بموته‏.‏ ويستدلّون«بحديث الأعمى المتوسّل برسول اللّه في ردّ بصره»‏.‏

10 - القول الثّاني‏:‏ أجاز العزّ بن عبد السّلام وبعض العلماء الاستغاثة باللّه متوسّلاً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّالحين حال حياتهم‏.‏ وروي عنه أنّه قصر ذلك على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحده‏.‏ واستشهد لهذا بحديث الأعمى الّذي دعا اللّه سبحانه متوسّلاً برسول اللّه فردّ اللّه عليه بصره‏.‏ فعن عثمان بن حنيفٍ أنّ «رجلاً ضريراً أتاه عليه الصلاة والسلام‏.‏ فقال‏:‏ ادع اللّه تعالى أن يعافيني، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن شئت أخّرت وهو خيرٌ، وإن شئت دعوت‏.‏ فقال‏:‏ ادع قال‏:‏ فأمره أن يتوضّأ ويحسن وضوءه ويدعو بهذا الدّعاء‏:‏ اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بحبيبك محمّدٍ نبيّ الرّحمة، يا محمّد، إنّي أتوجّه بك إلى ربّك في حاجتي لتقضى‏.‏ اللّهمّ شفّعه في» وصحّحه البيهقيّ وزاد‏:‏ فقام، وقد أبصر‏.‏

11 - القول الثّالث‏:‏ عدم جواز الاستغاثة إلاّ باللّه سبحانه وتعالى، ومنع التّوسّل في تلك الاستغاثة بالأنبياء والصّالحين، أحياءً كانوا أو أمواتاً‏.‏

وصاحب هذا الرّأي ابن تيميّة، ومن سار على نهجه من المتأخّرين‏.‏ واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أضلّ ممّن يدعو من دون اللّه من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون‏}‏‏.‏ وبما رواه الطّبرانيّ بسنده عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه، أنّه «كان في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم منافقٌ يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم‏:‏ قوموا بنا نستغيث برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّه لا يستغاث بي وإنّما يستغاث باللّه»‏.‏

الصّورة الثّانية‏:‏

12 - استغاثةٌ باللّه واستغاثةٌ بالشّفيع أن يدعو اللّه له‏:‏ وهو أن يسأل اللّه، ويسأل المتوسّل به أن يدعو له،«كما كان يفعل الصّحابة، ويستغيثون ويتوسّلون بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ثمّ من بعده بعمّه العبّاس»، ويزيد بن الأسود الجرشيّ رضي الله عنهما، فهو استغاثةٌ باللّه، واستغاثةٌ بالشّفيع أن يسأل اللّه له‏.‏ فهو متوسّلٌ بدعائه وشفاعته، وهذا مشروعٌ في الدّنيا والآخرة في حياة الشّفيع، ولا يعلم فيه خلافٌ‏.‏ فقد روى البخاريّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «ألا أخبركم بأهل الجنّة، كلّ ضعيفٍ مستضعفٍ، لو أقسم على اللّه لأبرّه» قال العلماء‏:‏ معناه لو حلف على اللّه ليفعلنّ كذا لأوقع مطلوبه، فيبرّ بقسمه إكراماً له، لعظم منزلته عنده‏.‏ فدلّ ذلك على أنّ بعض، النّاس خصّه اللّه بإجابة الدّعوة، فلا بأس أن يسأل فيدعو للمستغيث، وقد ورد هذا في آثارٍ كثيرةٍ عن الرّسول صلى الله عليه وسلم والصّحابة‏.‏

الصّورة الثّالثة‏:‏ استغاثةٌ في سؤال اللّه‏:‏

13 - وهي أن يستغيث الإنسان بغيره في سؤال اللّه له تفريج الكرب، ولا يسأل اللّه هو لنفسه‏.‏ وهذا جائزٌ لا يعلم فيه خلافٌ‏.‏ ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وهل تنصرون وترزقون إلاّ بضعفائكم» أي بدعائهم، وصلاتهم، واستغفارهم‏.‏ ومن هذا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «كان يستفتح بصعاليك المهاجرين»‏.‏ أي يستنصر بهم‏.‏ فالاستنصار والاسترزاق يكون بالمؤمنين بدعائهم، مع أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل منهم‏.‏ لكنّ دعاءهم وصلاتهم من جملة الأسباب، ويقتضي أن يكون للمستنصر به والمسترزق به مزيّةً على غيره من النّاس‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبرّه‏.‏ منهم البراء بن مالكٍ»‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أويسٍ القرنيّ‏:‏ «فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» وقول الرّسول صلى الله عليه وسلم لعمر لمّا ودّعه للعمرة‏:‏ «لا تنسنا من دعائك»‏.‏

الصّورة الرّابعة‏:‏

14 - أن يسأل المستغاث به ما لا يقدر عليه، ولا يسأل اللّه تبارك وتعالى، كأن يستغيث به أن يفرّج الكرب عنه، أو يأتي له بالرّزق‏.‏ فهذا غير جائزٍ وقد عدّه العلماء من الشّرك، ‏"‏ لقوله تعالى ‏{‏ولا تدع من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فعلت فإنّك إذاً من الظّالمين‏.‏ وإن يمسسك اللّه بضرٍّ فلا كاشف له إلاّ هو وإن يردك بخيرٍ فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرّحيم‏}‏‏.‏ وفي الصّحيح عن أنسٍ رضي الله عنه قال‏:‏ «شجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ وكسرت رباعيته، فقال‏:‏ كيف يفلح قومٌ شجّوا نبيّهم‏؟‏ فنزلت ‏{‏ليس لك من الأمر شيءٌ‏}‏»، فإذا نفى اللّه تعالى عن نبيّه ما لا قدرة له عليه من جلب نفع أو دفع ضرٍّ، فغيره أولى‏.‏

الاستغاثة بالملائكة

15 - الاستغاثة بهم استغاثةٌ بغير اللّه تعالى، وكلّ استغاثةٍ بغير اللّه ممنوعةٌ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ «إنّه لا يستغاث بي، ولكن يستغاث باللّه»

ولحديثه أيضاً عليه السلام «لمّا ألقي إبراهيم في النّار اعترضه جبريل، فقال له‏:‏ ألك حاجةٌ‏؟‏ فقال‏:‏ أمّا إليك فلا»‏.‏

الاستغاثة بالجنّ

16 - الاستغاثة بالجنّ محرّمةٌ، لأنّها استغاثةٌ بمن لا يملك، وتؤدّي إلى ضلالٍ، وقد بيّن اللّه تعالى ذلك بقوله ‏{‏وأنّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنّ فزادوهم رهقاً‏}‏ ويعتبر هذا من السّحر‏.‏

المستغيث وأنواعه

17 - إذا استغاث المسلم لدفع شرٍّ وجبت إغاثته، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضّالّ» وقوله عليه السلام «من نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدّنيا نفّس اللّه عنه كربةً من كرب يوم القيامة» وهذا إذا لم يخش المغيث على نفسه ضرّاً، لأنّ له الإيثار بحقّ نفسه دون حقّ غيره، وهذا في غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ‏{‏النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏‏.‏ أمّا الإمام ونوّابه فإنّه يجب عليهم الإغاثة، ولو مع الخشية على النّفس، لأنّ ذلك مقتضى وظائفهم‏.‏

18 - وإذا استغاث الكافر فإنّه يغاث لأنّه آدميٌّ، ولأنّه يجب الدّفع عن الغير إذا كان آدميّاً محترماً، ولم يخش المغيث على نفسه هلاكاً، لأنّ له الإيثار بحقّ نفسه دون حقّ غيره ولحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «إنّ اللّه يحبّ إغاثة الملهوف» ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا تنزع الرّحمة إلاّ من شقيٍّ»‏.‏ وكذلك إذا كان الكافر حربيّاً واستغاث، فإنّه يجاب إلى طلبه، لعلّه يسمع كلام اللّه، أو يرجع عمّا في نفسه من شرٍّ ويأسره المعروف‏.‏ لقوله تعالى ‏{‏وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه ثمّ أبلغه مأمنه‏}‏ ‏"‏ أي فأجره، وأمّنه على نفسه وأمواله، فإن اهتدى وآمن عن علمٍ واقتناعٍ فذاك، وإلاّ فالواجب أن تبلغه المكان الّذي يأمن به على نفسه، ويكون حرّاً في عقيدته‏.‏

الاستعانة بالكافر في حرب الكفّار

19 - اتّفق العلماء على أنّ الاستغاثة لدفع شرٍّ، أو جلب نفعٍ ممّا يملكه المخلوق تجوز بالمخلوقين مطلقاً، فيستغاث بالمسلم والكافر، والبرّ والفاجر، كما يستغاث بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ويستنصر به كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه يؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر» فلم تكن الإغاثة من خصائص المؤمنين فضلاً عن أن تكون من خصائص النّبيّين أو المرسلين، وإنّما هي وصفٌ مشتركٌ بين جميع الآدميّين‏.‏

استغاثة الحيوان

20 - يجب إغاثة الحيوان، لما روي من الأحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنّ رجلاً دنا إلى بئرٍ فنزل، فشرب منها وعلى البئر كلبٌ يلهث، فرحمه، فنزع أحد خفّيه فسقاه، فشكر اللّه له فأدخله الجنّة»‏.‏

حالة المستغيث

21 - إذا كان المستغيث على حقٍّ وجبت إغاثته، لما تقدّم من وجوب إغاثة المسلم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلاّ على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ‏}‏ ‏"‏ أي إن استنقذوكم فأعينوهم بنفيرٍ أو مالٍ، فذلك فرضٌ عليكم، فلا تخذلوهم إلاّ أن يستنصروكم على قومٍ كفّارٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ فلا تنصروهم عليهم‏.‏ إلاّ أن يكونوا أسرى مستضعفين، فإنّ الولاية معهم قائمةٌ، والنّصرة لهم واجبةٌ، حتّى لا تبقى منّا عينٌ تطرف، حتّى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتّى لا يبقى لأحدٍ درهمٌ، كذلك قال مالكٌ وجميع العلماء ولحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «من أذلّ عنده مؤمنٌ فلم ينصره، وهو قادرٌ على أن ينصره، أذلّه اللّه عزّ وجلّ على رؤوس الخلائق يوم القيامة»‏.‏

22 - أمّا إن كان المستغيث على باطلٍ، فإن أراد النّزوع عنه وأظهر ذلك استنقذ، وإن كان يريد البقاء على باطله فلا‏.‏ وكذلك كلّ ظالمٍ فإن نصرته محرّمةٌ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مثل الّذي يعين قومه على غير الحقّ كمثل بعيرٍ تردّى في بئرٍ فهو ينزع بذنبه»‏.‏ وقوله‏:‏ «من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود اللّه فقد ضادّ اللّه في ملكه، ومن أعان على خصومةٍ لا يعلم أحقٌّ أو باطلٌ فهو في سخط اللّه حتّى ينزع»‏.‏ وقال سفيان الثّوريّ‏:‏ إذا استغاث الظّالم وطلب شربة ماءٍ فأعطيته إيّاها كان ذلك إعانةً له على ظلمه‏.‏

ضمان هلاك المستغيث

23 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ منع المستغيث عمّا ينقذ حياته - مع القدرة على إغاثته بلا ضررٍ يلحقه، والعلم بأنّه يموت إن لم يغثه - يستوجب القصاص، وإن لم يباشر قتله بيده‏.‏ وذهب الحنابلة وأبو يوسف ومحمّدٌ إلى أنّ فيه الضّمان ‏(‏الدّية‏)‏، وسوّى أبو الخطّاب بين طلب الغوث، أو رؤية من يحتاج للغوث بلا طلبٍ‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا ضمان، لأنّه لم يباشر الفعل القاتل‏.‏

حكم من أحجم عن إجابة المستغيث

الاستغاثة عند الإشراف على الهلاك

24 - إذا استغاث المشرف على الهلاك من الجوع أو العطش وجبت إغاثته، فإن منع حتّى أشرف على الهلاك ففي المسألة رأيان‏:‏

الأوّل قال به الحنفيّة‏:‏ للمستغيث أن يقاتل بالسّلاح، إن كان الماء غير محرّزٍ في إناءٍ، لما ورد عن الهيثم أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوا أهله واستغاثوا بهم أن يدلّوهم على بئرٍ فأبوا، فسألوهم أن يعطوهم دلواً فأبوا، فقالوا لهم‏:‏ إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت أن تقطع، فأبوا أن يعطوهم، فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه، فقال لهم عمر‏:‏ فهلاّ وضعتم فيهم السّلاح‏.‏ فيه دليلٌ على أنّ لهم في الماء حقّ الشّفة‏.‏ فإذا منع المستغاث بهم حقّ المستغيثين بقصد إتلافهم كان للمستغيثين أن يقاتلوهم عن أنفسهم‏.‏ فأمّا إذا كان الماء محرّزاً، فليس للّذي يخاف الهلاك من العطش أن يقاتل صاحب الماء بالسّلاح، بل له أن يقاتله بغير سلاحٍ، وكذلك في الطّعام، لأنّه ملكٌ محرّزٌ لصاحبه، ولهذا كان الآخذ ضامناً‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يقاتل بالسّلاح، ويكون دم المانع هدراً‏.‏

الاستغاثة عند إقامة الحدّ

25 - لإغاثة من سيتعرّض للحدّ حالتان‏:‏

الأولى‏:‏ قبل أن يصل أمره إلى الإمام، أو الحاكم، يستحبّ إغاثته بالعفو عنه والشّفاعة له عند صاحب الحقّ، وعدم رفع أمره للحاكم‏.‏ لما روي عن «صفوان بن أميّة أنّ رجلاً سرق برده فرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه، فقال‏:‏ يا رسول اللّه قد تجاوزت عنه، قال‏:‏ فلولا كان هذا قبل أن تأتيني به يا أبا وهبٍ فقطعه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم»‏.‏

والثّانية‏:‏ إذا وصل أمره إلى الحاكم، فلا إغاثة ولا شفاعة‏.‏ لما روت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «أنّ قريشاً أهمّتهم المرأة المخزوميّة الّتي سرقت، فقالوا‏:‏ من يكلّم فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلاّ أسامة حبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فكلّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أتشفع في حدٍّ من حدود اللّه‏؟‏، ثمّ قام فخطب، قال‏:‏ يا أيّها النّاس إنّما ضلّ من كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق الضّعيف فيهم أقاموا عليه الحدّ، وأيم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمّدٍ سرقت لقطع محمّدٌ يدها»‏.‏

الاستغاثة عند الغصب

26 - اتّفقت المذاهب على أنّ المغصوب منه والمسروق منه يجب عليه أن يستغيث أوّلاً، وأن يدفع الصّائل أو السّارق بغير القتل‏.‏ فإذا لم يندفع، أو كان ليلاً، أو لم يغثه أحدٌ، أو منعه الصّائل، أو السّارق من الاستغاثة، أو عاجله، فله دفعه عن نفسه وعرضه وماله - وإن كان قليلاً - ولو بالقتل، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «من قتل دون ماله فهو شهيدٌ، ومن قتل دون عرضه فهو شهيدٌ» وقد روي أنّ ابن عمر رأى لصّاً فأصلت عليه السّيف قال‏:‏ فلو تركناه لقتله‏.‏ وجاء رجلٌ إلى الحسن فقال‏:‏ لصٌّ دخل بيتي ومعه حديدةٌ، أقتله‏؟‏ قال‏:‏ نعم بأيّ شيءٍ قدرت‏.‏

27 – فإذا قتل المغصوب منه الغاصب، أو المسروق منه السّارق بدون استغاثةٍ واستعانةٍ مع قدرته عليها، وإمكان دفعه بما هو دون القتل، ففي المسألة رأيان‏:‏

الأوّل للحنفيّة‏:‏ يجب القود‏.‏

الثّاني للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يضمن القاتل، لأنّه يمكن دفعه بغير القتل، لأنّ المقصود دفعه فإذا اندفع بقليلٍ فلا يلزم أكثر منه، وإن ذهب مولّياً لم يكن له قتله كأهل البغي‏.‏ فإن فعل غير ذلك كان متعدّياً‏.‏

الاستغاثة في الإكراه على الفاحشة

28 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستغاثة عند الفاحشة علامةٌ من علامات الإكراه الّتي تسقط الحدّ عن المكرهة الأنثى، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «عفي عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏